الأربعاء، 23 مارس 2011

ألا يا حَماماتِ الأراكَة والبَانِ 
ترَفّقْنَ لا تُضْعِفْنَ بالشجوِ أشجاني 

ترَفّقْنَ لا تُظهرنَ بالنّوح والبُكا 
خفيَّ صباباتي ومكنونَ أحزاني

أُطارحُها عند الأصيلِ وبالضحى
بحنَّة مشتاقٍ وأنَّة هيمانِ 

تَنَاوَحَتِ الأرواحُ في غَيضَة الغَضا 
فمالتْ بأفنانٍ عليَّ فأفناني 

وجاءتْ منَ الشَّوقِ المبرَّحِ والجوى
ومن طُرَفِ البَلْوَى إليّ بأفْنانِ 

فمَن لي بجمعٍ والمحصّب منْ منى
ومَنْ لي بِذاتِ الأثْلِ مَنْ لِي بنَعْمان

تطوفُ بقلبي ساعة بعدَ ساعة ٍ 
لوَجدٍ وتبريحٍ وتَلثُمُ أركاني 

كما طاف خيرُ الرُّسلِ بالكعبة 
التي يقولُ دليلُ العقْلِ فيها بنُقصَانِ 

وقبّلَ أحجاراً بها، وهو ناطقٌ 
وأينَ مَقامُ البيتِ من قدرِ إنسانِ 

فكَم عَهِدَتْ أن لا تحولَ وأقسمتْ 
وليس لمخضوبٍ وفاءٌ بأيمانِ 

ومنْ أعجبِ الأشياءِ ظبى مبرقعُ 
يشيرُ بعنَّابٍ ويومي بأجفانِ 

ومَرعاهُ ما بينَ التّرائِبِ والحَشَا

ويا عَجَباً من روضة وَسَطَ نيرانِ

لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ 
فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ 

وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ، 
وألواحُ توراة ٍومصحفُ قرآنِ 

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ 
فالدِّينُ ديني وإيماني

لنا أُسْوَةٌ في بِشْرِ هندٍ وأُخْتِهَا 
وقيسٍ وليلى، ثمَّ مي وغيلانِ


  1. أراد بالحمامات : واردات التقديس والرضى والنور والتنزيه، فالتقديس والرضى للأراكة لأنه شجر يُستاك به وهو مطهرة للفم ، والنور والتنزيه للبنان من حيث الدهن ومن حيث البعد. كما قال : فكانت البان، أي كانت سليمى. فقال للواردات رفقا عليّ لا تضعفن من التضعيف ما تلقين إلي في خطابكن من ثمرات التعشق والمحبة المهلكة للمحبين، أي خطابكن يشجي ويضاعف شجوي وقد يكون من الضعف أي شجوي يضعف لشجوكن، من باب قوله :" من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعاً"(صحيح بخاري رقم 697).
  2. يخاطب الواردات التي ذكرناها، يقول : لا تظهرن بالنوح التي هي المقابلة في الشجو والبكاء وإرسال المدامع لسبق المقدور وعدم تبدله. وقد رأيته في مشهد من المشاهد يبكي على ما سبق في العلم من شقاء الدجال وأبي لهب وأبي جهل، من باب قوله تعالى :" ما ترددت في شي كترددي في قبض روح عبديَ المؤمن وهو يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من لقائي". فمن هذا المقام يكون هذا البكاء. وقوله : خفي صباباتي، ما تنطوي عليه الضلوع من رقة الشوق للمنظر الأجلى. ومكنون أحزاني ما تستره من ألم الفقد عند رجوعها إليها.
  3. يقول : أطارحا أقول مثل ما تقول. يشير إلى حالة الصدى الذي هو رد الصوت إليك بما يخرج منك. قال الله تعالى للنفس أول ما خلقها: من أنا؟ قالت له من أنا لصفائها، فأسكنها في بحر الجوع أربعة آلاف سنة فقالت له : أنتَ ربي. وقوله : عند الأصيل وبالضحى، وهما طرفا النها، وهو قوله تعالى:"بالعشيّ والإبكار"(آل عمران : 41) وقوله :"قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" ( طه : 130) فهو المقدس نفسه بنفسه ويظهر الأثر في غيره فينسب إليه الأمر وهو ليس هنك لأنه به يتكلم وبه يسمع وبه يبصر.و قوله : تحية مشتاق وأنّة هيمانِ، من قوله : "يحبّهم ويحبونه" (المائدة : 54). فمن هذا المقام تكون المطارحة بين من ذكرنا والحنين للاشتياق والأنين للهَيمان.
  4. يقول : تقابلت الأرواح، جمع روح، وإذا أراد جمع ريح فيريد عالم الأنفاس. وكنّى عن نيران الحب بالغَضا، والغيضة شجرة، ووصفها بالمَيل، فإن لهيب النار الذي هو المارج فإنها للنار بمنزلة الأغصان للشجر فتميلها الرياح كما تميل الأغصان، فمن هنا أوقع التشبيه بالغيضة والأفنان. قالَ : وكان مَيل هذه الأفنان الشوقية اللهبية لتغنيني عنّي حتى يكون هو ولا أنا غيرةً على المحب أن يكون له وجود في نفسه لغير محبوبه فكانَ كما أراد فقال : فأفناني ميل هذه الأفنان، ووصفها بالمناوحة لكون المحبة تقتضي الجمع بين الضدّين.
  5. يقول : ساقت معها إليّ فنوناً كثيرة من الشوق المبرح، أي المظهر، لما يكنّه جَناني - أي قلبي - من هواه والجوى الذي هو الانفساح في المحبة لأنه على الحقيقة مأخوذ من الجو. ومن طرف جمع طرفة وهي أوائل كل طرفة، وأول كل بلاء أصعبه فإذا سكنت إليه النفس هانَ عليا. والبلوى من الابتلاء. أي ساقت إليّ أوائله التي هي أصعبها.
  6. يقول : مَن لي بالجمع بالأحبة في مقام القربة وهي المزدلفة. والمحصّب موضع تحصيب الخواطر المانعة من قبل هذه النية المطلوبة للمحبين. ومَن لي بذات الأثل الذي هو الأصل، فإن الأصل في المحبة أن تكون أنت عين محبوبك وتغيب فيه عنك فيكون هو ولا أنت. مَن لي بنعمانِ أي بهذا المقام الذي كون به النعيم الإلهي القدسي.
  7. شرح البيت الأول : أي تتكرر عليه مع الأنات لتقلبه هو في الحالات ولذلك جاءه بالقلب ولم يقل بالنفس ولا بالروح. وقوله : "لوجد وتبريح"، من أجل إلقائها في الوجد بها والشوق المزعج إليه. " وتلثم أركاني" يعني الأركان الأربعة التي قام عليها هذا الهيكل، وتلثمه أي تقبله فوق اللثام يعني الحجاب، فإن ما في قوته مشاهدتها إلا بواسطة وقد ظافت بقلبه فقد غمرت ذات المحب حساً ومعنى هذه الحقائق.
  8. - 10. يقول : هذه الواردات قد يكون منها ما فيه من امتزاج بالمزاج، فكنّى عما فيها منها بالمخضوب ولهذا وصفها بعدم الوفاء، وتسمى هذه واردات نفسية وهي التي وردت على النفس حين خاطبها الحق :"ألستُ بربكم"(الأعراف:172)، وأخذ عليها العهد والميثاق، ثم بعد ذلك لم تثق بمقام التوحيد له بل أشركت على طبقاتها فإنه ما سلِم من هذا الشرك أحد فإن كل أحد قال : أنا فعلت، وقال على حين غفلة من مشاهدة القائل : فيه وبه من هو.
11- يقول : من أعجب الأشياء ظبي، يريد لطيفة إلهية، مبرقع.
      يقول : محجوب بحالة نفسية وهي أحوال العارفين المجهولة، فإن العامة تظهر بما تظهر به الطائفة المحققة من الصور بخلاف أصحاب الأحوال ولا يتمكن التصريح من أهل هذا المقام بأحوالهم فإنهم يكذبون لعدم الشاهد ولكن يعرفون بالإشارة والإيماء عند بعض الذائقين لأوائل أحوالهم. وأراد بالعنّب هذا ما أراده بالمُحصّب في اليد قبله والإيماء بالأجفانِ.
يقول : أدلة النظر في أحكام أصحاب هذا المقام يقوم للذائقين لأوائله فتقع المعرفة لهم فيهم أنهم وإن اشتركوا مع العامة في صورة الحكم الظاهر فهم بائنون في أسرارم في أصلها فشتان بين من ينطق بنفسه وبين من ينطق بربّه واللسان واحد عند السامع في الشاهد.
12- يقول : " ومرعاه بين الترائبِ والحَشا ".
      من العلوم التي في صدره. والحَشا : ما حُشِيَ به باطنه وقلبه من الحكم والإيمان. كما قال الإمام علي وضرب بيده إلى صدره : إن ههنا لَعلوماً جمّة، لو وجدتُ لها حَملَة. ثم أخذ يتعجّب من محب أحرق بنيران المحبة والاشتياق كيف لم تحرق ما يحمله من العلوم التي بين ترائبه وفي حشاه، ووصفه بالروضة لاختلاف أزهارا وأثمارها، فإن فنون العلوم كثيرة ومتنوعة من شأن النار إذا تعلّقت بالأشجار أحرقتها، وهذه علوم محمولة في هذا الشخص ونار الحب متأججة في ذاته فكيف لم تذهب بهذه العلوم فلا يبقى لديه علم أصلا؟
والجواب عن هذا أنه منه تكوّن وإذ تكوّن شيء عن شيء لم يعدمه ذلك الشيء. كما يقال في السمندل : إن كان حقا أنه حيوان يتكون في النار فلا تعدو عليه. ولما كانت هذه العلوم والمعارف نتائج عن نيران الطلَب والشوق إليها لم تغنِ بها.
13- لقد  صار قلبي قابلا كل صورة. 
      كما قال الآخر : " ما سميَ القلب إلا من تقلّبهِ ".
      فهو يتنوع بتنوع الواردات عليه وتنوع الواردات بتنوع أحواله وتنوع أحواله لتنوع التجليات الإلهيه لسرّه، وهو الذي كنى عنه الشرع بالتحوّل والتبدّل في الصوَر. ثم قال : " فمرعى لغزلان"، أي إذا وصفناه بالمرعى كنينا عن السارحين فيه بالغزلان دون غيرها من الحيوانات لأن كلامنا بلسان الهوى وبالغزلان يقع التشبيه بالأحبة للمحبين في هذا اللسان، ولا شك أن عين الفرس سوداء متسعة ولكن ما وقع التشبيه إلا بعين الغزلان.
وقوله : ودير لرهبان، يقول : إذا جعلناهم رهبانا من الرهبانية جعلنا القلب ديرا للمناسبة لأنه منزل الرهبان وموضع إقامتهم.
14- يقول : وهذا القلب صورة بيت الأوثان، لما كانت الحقائق المطلوبة للبشر قائمة به التي يعبدون الله من أجلها فسمي ذلك أوثاناً. ولما كانت الأرواح العلوية حافة بقلبه سمى قلبه كعبة، وهي الأرواح المذكورة له، إذا مسه طائف من الشيطان فهن أصحاب الملمات الملكية. ولما حصل من العلوم الموسوية العبرانية جعل قلبه ألواحاً لها. ولما ورث من المعارف المحمدية الكمالية جعلها مصحفاً وأقامها مقام القرآن لما حصل له من مقام " أوتيت جوامع الكلم"(صحيح بخاري 2815).
15- يشير إلى قوله: " فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران: 31) فلهذا سمّاه دين الحب ودان به ليتلقى تكليفات محبوبه بالقبول والرضى والمحبة ورفع المشقة والكلفة فيها بأي وجه كانت، ولذا قال : " أنّى توجَّهَت" أي أية سلكت مما يرضي ولا يرضي فهي كلها مرضية عندنا. وقوله : " فالدين ديني وإيماني "، اي ما ثم دين أعلى من دين قام على المحبة والشوق لمن أدين له به وأمر به على غيب. وهذا مخصوص بالمحمديين فإن محمداً (ص)، له من بين سائر الأنبياء مقام المحبة بكاملها مع أنه صفي ونجي وخليل و غير ذلك من معاني مقامات الأنبياء وزاد عليهم أن الله اتخذهُ حبيباً أي محبا محبوبا وورثته على منهاجه.
16- ذكر المحبين في عالم الكون المهيمين بعشق المخدرات في الصور من الأعراب المتيمين. ويعني بأختها جميل بن معمر مع بثينة وبياض ورياض وابن الدريج ولبنى وغيرهم. 

يقول : الحب من حيث ما هو حب لنا و لهم حقيقة واحدة غير أن المحبين مختلفون لكونهم تعشّقوا بكون وإنا تعشّقنا بعَين والشروط واللوازم والأسباب واحدة فلنا أسوة بهم، فإن الله تعالي ما هيّم هؤلاء وابتلاهم بحب أمثالهم إلا ليقيم بهم الحجج على مَن ادّعى محبته ولم يهم في حبه هيَمان هؤلاء حين ذهب الحب بعقولهم وأفناهم عنهم لمشاهدات شواهد محبوبهم في خيالهم، فأحرى مَن يزعم أنه يحب من هو سمْعه وبصره من يتقرب إليه أكثر من تقرّبه ضعفاً.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق